إدارة الآلام المزمنة :
"إذا كنت تعاني من مرض
مزمن أو أُصبت بإعاقة تمنعك عمل ما اعتدت عمله، فقد تتحول كل مناطق التحكم التي
تمتلكها إلى دخان، وإذا أُصبت بألم جسدي لا يستجيب للعلاج الطبي، فقد يتفاقم شعورك
بالضيق بسبب الاضطراب العاطفي الناجم عن معرفة أن حالتك تبدو خارجةً عن سيطرة
الأطباء".
الكلمات السابقة أوردها
"جون كابات زين" -الأستاذ المتقاعد بكلية الطب في جامعة ماساتشوستس- في
كتابه "حياة كارثية بالكامل" (Full Catastrophe Living)، ملخصًا تلك العلاقة الأبدية بين الإصابة بآلام جسدية والشعور
باضطرابات نفسية تجعل الشخص يسير في طريق "أحلى ما فيه أمر من الصبار"،
مشددًا على ضرورة "استخدام الشخص للحكمة الموجودة في جسده وعقله لمواجهة
الضغوط العصبية والآلام والأمراض".
أشار "زين" عن "حكمة العقل والجسد" ربما مثلت في جزء منها
حجم معاناة أصحاب "الألم المزمن"، الذي قد يتطفل على حياة إنسان دون أن
يكلف نفسه عناء "طرق الأبواب"، وكأنه "ضيف ثقيل جاء ليجبر الشخص
على التعايش معه، كجزء من رحلة معاناة مع آلام قد تبدأ باضطرابات بالجهاز الهضمي
وتنتهي بحمى الضنك أو مرض مثل "رينود" الذي يصيب الأوعية الدموية
الدقيقة".
ذهب "زين" في كتابه
إلى تأكيد قدرة الإنسان على التعايش مع الألم من
خلال التأمل،
والقراءة، وتدريب الذات على الصمود، واستراق لحظات الفرح، والحركة، والتواصل مع
الآخرين، وإجراء تغييرات على نظامه الغذائي، وأداء الأعمال المنزلية الروتينية،
وتدوين امتنانه الشخصي للأشياء الإيجابية التي قابلها في حياته اليومية.
في السياق ذاته، تشير نتائج
دراسة حديثة أجراها باحثون من جامعتي "كاليفورنيا"
و"ستانفورد" الأمريكيتين، ونشرتها دورية "نيتشر نيوروساينس" (Nature Neurscience)، إلى أن مفتاح تخفيف الألم
المزمن موجود في الدماغ، مشددةً على أن "استكشاف الدوائر الدماغية التي يحدث
فيها تغيير عند حدوث الألم قد يُسهم في تطوير علاجات تستهدفها لإيقاف الشعور
بالألم".
يقول "جيرالد
زامبوني" -الأستاذ في قسم علم وظائف الأعضاء وعلم الأدوية وبيولوجيا الخلية وعلم
التشريح بجامعة "ستانفورد"، والباحث الرئيسي في الدراسة- في تصريحات
لـ"للعلم": "إن الألم المزمن يشكل عبئًا كبيرًا على الأفراد
المصابين به، وله تكلفة اجتماعية واقتصادية مرتفعة. والعديد من المرضى لديهم
خيارات علاجية غير كافية، وفي بعض الحالات ليس له علاج فعال"، مضيفًا أنه وضع
فظيع للعديد من الأشخاص الذين يعانون من الألم المزمن؛ لأنه غالبًا ما يكون هناك
القليل جدًّا من الوسائل التي تمكِّنهم من التحكُّم في آلامهم.
ويصيب الألم المزمن، الذي
"يستمر أو يتكرر لأكثر من ثلاثة أشهر"، أكثر من 20% من الأفراد على سطح كوكب
الأرض، ومما يزيد الأمر سوءًا أن العلاجات المتاحة لمداواته لا يخلو استخدامها من
المشكلات.
عملية معقدة
تشير الدراسة إلى أن "شعور
الشخص بالألم، في حالة إصابته مثلًا بكسور أو خلع
في العظام، لا ينتج عن وجود ألم في العظام، بل يحدث نتيجة شبكة من
المستقبِلات تعمل على طول الجسم، تكون بدايتها النقطة المصابة في الجسم، وتمر عبر
الجهاز العصبي بطول العمود الفقري، ثم يحدث تفاعل داخل المخ كي يخبرنا بمقدار
الألم الذي نشعر به، ويظل هذا النظام الجسدي في حالة تأهُّب قصوى بعد حدوث
الإصابة، ثم يعاد ضبطه عادةً عندما تلتئم الجروح أو تجبر الكسور".
وفي بعض الأحيان، لا تستعيد
منظومة الشعور بالألم انضباطها حتى بعد التعافي من الإصابة؛ وذلك بسبب حدوث تلف في
بعض الأعصاب، مما يسبب شعورًا مستمرًّا بـ"الألم المزمن".
يُعد الألم المزمن حالةً صحيةً خطيرة، ومثل أيّ مشكلة طويلة الأجل،
يؤدي غالبًا إلى مضاعفات تتجاوز الأعراض البدنية، مثل التوتر العضلي، وقصور
الحركة، وانعدام طاقة الجسم، وتغييرات في الشهية للطعام، كما يؤدي إلى العديد من
الآثار النفسية، مثل الشعور بالاكتئاب والغضب والقلق، والخوف من الإصابة مرةً
أخرى؛ وقد يَعُوق الشعور بالخوف قدرةَ الشخص على استئناف عمله المعتاد، أو أداءه
للنشاطات الترفيهية.
تشمل أنواع الألم المزمن آلام الصداع، وآلام أسفل
الظهر، وآلام مرض السرطان، وآلام التهاب المفاصل، وآلام الأعصاب الناجمة عن تلف
الأعصاب، والآلام الناجمة عن الاضطراب النفسي.
كما يزيد الألم المزمن من صعوبة
قدرة الشخص على مواصلة العمل أو أداء المهمات المنزلية والأسرية، ما يؤدي إلى
مشكلات في العلاقات الشخصية وعدم الاستقرار المالي، إضافةً إلى أنه كلما زادت شدة
الألم، كانت المشكلات أكثر خطورة.
ويحذر تقرير صادر عن منظمة
الصحة العالمية في سبتمبر 2019 من أن الألم المزمن قد يرتبط بالانتحار، مشددًا على
أن "هناك العديد من حالات الانتحار التي تحدث فجأة في لحظات الأزمة نتيجة
انهيار القدرة على التعامل مع ضغوط الحياة، مثل المشكلات المالية، أو انهيار
علاقةٍ ما، أو غيرها من الآلام والأمراض المزمنة".